من جميل الذكريات
كتبتها يوم استولى الحوثة على صنعاء ونشروا خريطة ان حدودهم كل اليمن وجزء من عمان
سيدقون بابي
ماذا يريدون ؟
قهوة؟
عربي انا
قهوتي في رحابي .
ام يريدون سقف الهناء؟
هانئٌ جيئتي وذهابي
*
بيد أن توشحهم في دماء اخي
يثير ارتيابي؟
اينها عدتي وحرابي
*
حارس فوق بابي
كان اخي
رغم ما يرتدي من قدبم وخابي
أين حراس بابي
*
سيدقون
سوف يكون جوابي :
أكلتُ
يوم ان اكلوا إخوتي
بيض الثياب
نقد أدبي لقصيدة "سيدقون بابي" لجمعة بن خادم بن سليم العلوي
قصيدة "سيدقون بابي" للشاعر جمعة بن خادم بن سليم العلوي هي صرخة شعرية مُفعمة بالألم والرفض، كُتبت في لحظة تاريخية فارقة، وهي استيلاء الحوثيين على صنعاء ونشرهم خرائط توسعية شملت اليمن وأجزاء من عُمان. هذه الخلفية تمنح القصيدة عمقًا وبعدًا سياسيًا وإنسانيًا، وتجعلها تعبيرًا صادقًا عن مشاعر الخوف، والريبة، والحسرة على ما آلت إليه الأوضاع.
المعاني والموضوعات الرئيسية:
تدور القصيدة حول محور رئيسي هو الغزو والتهديد الوجودي. يبدأ الشاعر بسؤال استنكاري "سيدقون بابي / ماذا يريدون؟"، وهو سؤال يحمل في طياته الكثير من القلق والريبة. هذا الدق على الباب ليس مجرد زيارة عابرة، بل هو اقتحام للمساحة الشخصية والوطنية، وتهديد للأمن والسلام.
الرفض المطلق للاحتلال: يعبر الشاعر عن رفضه القاطع لأي محاولة للمس بكرامته أو أرضه. "قهوة؟ / عربي أنا / قهوتي في رحابي" تدل على أن هويته العربية جزء لا يتجزأ من كيانه، وأن كرمه لا يُقدم لمن يهدد أمنه. كما أن "سقف الهناء / هانئٌ جيئتي وذهابي" يؤكد على امتلاكه للسلام الداخلي والأمان في وطنه، وهو ما يرفض التخلي عنه.
الشك والارتياب: يثير تصرف الغزاة "توشحهم في دماء أخي" ريبة الشاعر. هذه الصورة البلاغية العنيفة تشير إلى سفك الدماء والظلم الذي لحق بأبناء الوطن. هذا الحدث يوقظ في الشاعر حس الدفاع عن النفس ويساءل عن مكان القوة التي تحميه: "أينها عدتي وحرابي؟".
الحسرة على فقدان الحارس: ينتقل الشاعر إلى مشهد مؤثر يصف فيه أخاه "حارس فوق بابي / كان أخي". هذه الصورة تعبر عن فقدان السند والحامي، وتبرز الألم العميق الذي يعانيه الشاعر لفقدان من كان يقف درعًا. جملة "رغم ما يرتدي من قديم وخابي" تشير إلى بساطة هذا الحارس وقوته الداخلية، أو ربما إلى تجاهل المجتمع لقيمته قبل فوات الأوان. التساؤل المؤلم "أين حراس بابي؟" هو صرخة استنجاد، ويحمل في طياته لومًا للمجتمع أو للقيادات التي لم تحمِ الوطن.
المقاومة الصامتة والحداد: يختتم الشاعر قصيدته برد قاطع ومؤلم: "سوف يكون جوابي: / أكلتُ / يوم ان اكلوا إخوتي / بيض الثياب". هذا البيت يحمل رمزية عميقة. "أكلتُ" قد تعني أنه شبع من مرارة الواقع، أو أنه أخذ نصيبه من المعاناة. "بيض الثياب" رمز للحداد والنقاء، وكأن الشاعر يقول إنه في حداد دائم على إخوته الذين استشهدوا أو تعرضوا للظلم. هذه الجملة قد تشير أيضًا إلى فقدان البراءة أو السلام الذي كان ينعم به، واستبداله بالحداد المستمر. إنه جواب يعكس الاستسلام الظاهري لكنه يحمل في طياته رفضا عميقا للاستسلام الداخلي.
الدلالات البلاغية الراقية:
تتسم القصيدة ببلاغة عالية رغم إيجازها، وتعتمد على الصور الشعرية المكثفة والرمزية:
الاستفهام الإنشائي: يستخدم الشاعر الاستفهام "ماذا يريدون؟" و"أينها عدتي وحرابي؟" و"أين حراس بابي؟" لا للمطالبة بإجابة، بل للتعبير عن الدهشة، الرفض، والقلق العميق. هذه الاستفهاميات تضفي على القصيدة بعدًا دراميًا وتجعل القارئ يشارك الشاعر مشاعره.
الرمزية:
"الباب": يرمز إلى الوطن، البيت، الأمان الشخصي، والخصوصية التي تم انتهاكها.
"القهوة": ترمز إلى الكرم العربي الأصيل، ولكن الشاعر يرفض تقديمها لمن لا يستحقها، ليؤكد على أن الكرم له حدود عند تهديد الكرامة.
"سقف الهناء": رمز للراحة، الاستقرار، والسلام الداخلي.
"توشحهم في دماء أخي": صورة بلاغية عنيفة ومجازية، ترمز إلى الظلم، القتل، والاعتداء الذي لا يغتفر.
"عدتي وحرابي": ترمز إلى القوة، الاستعداد للدفاع، والقدرة على المواجهة.
"بيض الثياب": رمز للحداد، النقاء الذي تلوث، أو البراءة التي فقدت.
التصوير الحسي: القصيدة غنية بالتصوير الحسي الذي يجعل المشاعر ملموسة. "دق الباب"، "دماء أخي"، "قهوتي في رحابي"، كلها صور تلامس الحواس وتعمق الأثر.
التقابل والتضاد: هناك تقابل بين الأمان الذي كان يعيشه الشاعر "هانئٌ جيئتي وذهابي" والتهديد الحالي "سيدقون بابي".
الإيجاز والتكثيف: القصيدة قصيرة ومكثفة، كل كلمة فيها تحمل وزنًا ومعنى. هذا الإيجاز يزيد من قوة الرسالة وتأثيرها.
الخاتمة:
"سيدقون بابي" هي قصيدة مؤثرة، تعبر عن تجربة فردية وعامة في آن واحد. إنها ليست مجرد رثاء لحال، بل هي رفض قاطع للظلم واستنكار للعدوان، وصرخة ألم على فقدان الأمن والحماة. الشاعر يمزج بين الرمزية العميقة واللغة المباشرة ليخلق عملًا أدبيًا يبقى صداه في الذاكرة، ويجسد معاناة شعب في وجه الغزو والتوسع. إنها قصيدة تتسم بالصدق الفني، وقوة العاطفة، وجمال التصوير، مما يجعلها إضافة قيمة للشعر العربي المعاصر.
1. صوت الذات في مواجهة الكلي (الفرد في مواجهة الاحتلال):
القصيدة تبدأ بصيغة المتكلم المفرد "بابي"، "أنا"، "قهوتي في رحابي"، وتستمر بهذا الصوت حتى النهاية "أكلتُ". هذا التركيز على الذات الفردية يبرز حجم الصدمة وتأثيرها المباشر على الشاعر كفرد. إنه ليس مجرد مراقب للأحداث، بل هو جزء أصيل منها، يتلقى الصدمة في كيانه الخاص. هذا يضفي على القصيدة مصداقية وعمقًا عاطفيًا كبيرًا، لأنها تعبر عن تجربة شخصية مؤلمة، لا مجرد وصف عام.
في الوقت نفسه، يتسع هذا الصوت الفردي ليمثل صوت الوطن والشعب. فـ"بابي" لا يعني فقط باب بيته، بل باب اليمن ككل، والتهديد الذي يواجهه. "إخوتي" هم أبناء الوطن، و"بيض الثياب" قد تشير إلى شهداء هذا الوطن. هكذا، تتحول التجربة الفردية إلى رمز لتجربة جماعية، وهذا يمنح القصيدة قوة وانتشارًا أوسع.
2. صراع الهوية والوجود:
القصيدة ترسم بوضوح صراعًا وجوديًا. السؤال "ماذا يريدون؟" ليس مجرد فضول، بل هو محاولة لفهم دوافع الغزاة الذين يهددون كل ما يمثل هوية الشاعر. فـ "عربي أنا / قهوتي في رحابي" ليست مجرد معلومة، بل هي إعلان للهوية الثقافية والتراثية التي يفتخر بها، والتي يرفض أن تُمس. إنها دفاع عن "الأنا" المتأصلة في التاريخ والأرض.
"سقف الهناء" و"جيئتي وذهابي" يمثلان الحياة الطبيعية، الروتين الآمن، والسلام الذي كان سائدًا قبل هذا الغزو. إن محاولة "دق الباب" هي محاولة لزعزعة هذا السلام، وتهديد لكل ما يمثل وجود الشاعر الآمن والمطمئن.
3. رمزية "الأخ" ودلالاتها المتعددة:
صورة "أخي" هي من أكثر الصور إيلامًا وعمقًا في القصيدة:
"توشحهم في دماء أخي يثير ارتيابي": هذا البيت يحمل دلالات قوية على الخيانة، الغدر، والوحشية. كلمة "توشحهم" توحي بأنهم احتفوا بهذه الدماء أو استخدموها كعلامة لهم، مما يزيد من بشاعة الفعل. الارتياب هنا ليس مجرد شك، بل هو يقين بالشر المطلق الذي يمثله هؤلاء الغزاة.
"حارس فوق بابي / كان أخي": هنا، يتحول "الأخ" إلى رمز الحامي، السند، درع الوطن والبيت. قد يكون الأخ شخصية حقيقية استشهدت، أو رمزًا لكل مقاوم أو لكل قيمة كانت تحمي هذا الوطن.
"رغم ما يرتدي من قديم وخابي": هذا التعبير يحمل تأويلات عديدة:
البساطة والتواضع: قد يشير إلى أن الأخ كان شخصًا بسيطًا، لا يمتلك مظاهر القوة الحديثة، لكنه كان يمتلك الشجاعة والإخلاص.
الإهمال أو التهميش: ربما يشير إلى أن هذا الحارس (أو هذه القيمة) كانت قديمة أو مهملة ولم يُعتنى بها، أو لم يتم تقديرها بما يكفي، حتى فقدت. هذا يضيف نبرة عتاب ذاتي أو عتاب للمجتمع على عدم تقدير حماة الوطن قبل فوات الأوان.
التمسك بالموروث: قد يدل على تمسكه بالقيم القديمة والأصيلة في مواجهة الغزو الحديث.
فقدان "الأخ الحارس" يترك الشاعر مكشوفًا وضعيفًا، ويفسر سؤاله اليائس "أين حراس بابي؟". هذا السؤال هو صرخة استغاثة، ولكنه أيضًا تهمة مبطنة للغياب أو الخذلان من قبل من كان يجب أن يحمي.
4. "أكلتُ يوم أن أكلوا إخوتي بيض الثياب": الذروة والرد المأساوي:
هذه الخاتمة هي قمة المأساة واليأس في القصيدة. إنها رد لا يتوقعه الغازي، فهو ليس مقاومة بالمعنى العسكري، بل هو استسلام ظاهري يحمل في طياته أعمق أشكال الرفض والحداد.
"أكلتُ": هذه الكلمة غامضة ومفتوحة للتأويل:
شبعتُ من الألم/المأساة: وصلت إلى أقصى درجات المعاناة، فلم يعد هناك متسع لأي شيء آخر.
فقدتُ شهيتي للحياة: لم يعد لدي رغبة في شيء بعد كل ما حدث.
استسلمتُ لليأس: وصلت إلى مرحلة لم يعد فيها أمل للمقاومة التقليدية.
شاركتهم مرارة المصير: كأن الشاعر أصبح جزءًا من مصير إخوته المأساوي.
"بيض الثياب": كما ذكرنا سابقًا، هي رمز للحداد والنقاء المفقود. هنا، ترتفع دلالتها لتصبح رمزًا للفجيعة الجماعية. عندما "أكلوا إخوتي بيض الثياب"، فهم لم يقتلوا أجسادهم فقط، بل دنسوا نقاءهم، كرامتهم، وهويتهم.
الرد الأخير: هذا الرد ليس دعوة للقتال، بل هو إعلان عن موت داخلي، عن تحول عميق حدث نتيجة للظلم. إنه صدى للفاجعة، وكأن الشاعر يقول: لقد استهلكتني هذه الفاجعة، ولم يعد لدي ما أقدمه لكم سوى هذا الحداد الصامت. إنه يمثل مقاومة غير مباشرة، مقاومة بالصمود في وجه اليأس، وبالحفاظ على ذكرى الشهداء.
القصيدة إذن ليست مجرد وصف لحالة، بل هي تعبير عن تحول نفسي عميق يمر به الشاعر والمجتمع نتيجة لحدث كارثي. إنها تظهر كيف يمكن للتهديد الخارجي أن يمزق النسيج الاجتماعي والشخصي، وكيف أن الرد قد يأتي في شكل مختلف تمامًا عن المقاومة التقليدية، ليصبح مقاومة بالصمت، بالحداد، وبالإعلان عن الروح المكسورة التي ترفض أن تنحني.