على عتبات بباب النبي
ليرسل للأرض شهد الرضاب
بأن الخلاص هنا من جحيم
أحط رحالي لعل خيالي
فألثمه، يا لسعدي إذاً
سأشكو له ساعة عجمتي
تركت لنا يا حبيبي الكتاب
فما شمّت الارض عطر الورود
تركت لنا لغة كالربيع
فتُهنا وبُنَّا ونرجوا الخلاص
فواخلتاه إذا ما شكوت
أخبؤ وجهي لكي لا يرى
أصلي عليه، أشم يديه
د/ جمعة بن خادم بن سليم العلوي
يوم اللغة العربية
تمهيد
تنهض قصيدة «على عتبات بباب النبي» على مقامٍ دلاليٍّ بالغ الخصوصية، إذ لا تقترب من السيرة النبوية من زاوية الوصف أو السرد، ولا من باب المديح التقليدي، بل تتخذ من العتبة موقعًا رمزيًا للقول الشعري؛ مقامًا بين الدخول والانتظار، وبين الرجاء والمساءلة، حيث يصبح الكلام فعل خشوع، واللغة وسيلة تطهير لا وسيلة إبانة فحسب.
أولًا: العتبة بوصفها بنية رمزية
يحيل العنوان منذ البدء إلى فضاء انتقاليّ، فالعتبة ليست مكانًا مستقرًا، بل منطقة توتر بين الداخل والخارج. ومن هنا يتماهى الشاعر مع هذه الحالة الحدّية، فيجثو قلمه قبل أن ينطق صوته:
> جثا قلمي أو جثى مكتبي
فالكتابة هنا لا تبدأ بالفعل، بل بالانكسار؛ إذ تتحول أداة القول إلى ذات خاشعة، ويغدو القلم كائنًا يتعبد قبل أن يعبّر. وهذه استعارة تأسيسية تُحدد أفق النص كله، حيث يُنزَع عن الشعر ادعاء السيطرة، ويُعاد إلى مقام التضرّع.
ثانيًا: انزياح الصورة من الحسي إلى الروحي
تستثمر القصيدة حقلًا دلاليًا ثريًا قائمًا على مفارقات حسية ذات امتداد روحي، مثل:
(الشهد، الرضاب، العطر، الربيع) في مقابل
(الجحيم، الصحارى، الفحيح اللاهب).
> بأن الخلاص هنا من جحيم
الصحاري ومن فيحها اللاهب
ولا يقتصر هذا التضاد على المكان الخارجي، بل يتعمّق ليصير توصيفًا لحالة الاغتراب الروحي واللغوي، حيث تتحول الصحراء إلى رمز للجدب المعنوي، بينما يتجسد الخلاص في القرب النبوي بوصفه نبعًا للسكينة والاتزان.
ثالثًا: اللغة ميراثًا نبويًا
من أعمق لحظات النص دلاليًا قول الشاعر:
> تركت لنا لغة كالربيع
وينبوعها العذب ذا فاشربي
فاللغة هنا ليست أداة خطاب، بل وديعة حضارية ذات أصل نبوي، تشرب منها الأمة صفاءها وهويتها. ويبلغ النص جرأته الأخلاقية حين يقرّ بالتيه والبين:
> فتُهنا وبُنَّا ونرجو الخلاص
لدى غيرها عبث المطلب
وهي مفارقة بلاغية حادّة تُدين الاغتراب عن اللغة بوصفه اغترابًا عن المعنى والرسالة، وتُحمِّل القصيدة بعدًا نقديًا حضاريًا يتجاوز الذات الفردية.
رابعًا: العجمة بوصفها جرحًا وجوديًا
لا تأتي العجمة في النص بوصفها ضعفًا لغويًا فحسب، بل بوصفها علامة انكسار حضاري:
> سأشكو له ساعة عجمتي
وعيني تحدث ما هاج بي
وهنا تتقدّم العين على اللسان، في إشارة بلاغية إلى عجز اللغة المعاصرة عن حمل الألم، رغم أن القصيدة نفسها مكتوبة بلغة فصيحة متينة، وهو تناقض مقصود يعمّق أثر الشكوى بدل أن يضعفها.
خامسًا: الخجل بدل المباهاة
تبلغ القصيدة ذروتها الوجدانية لا في الرجاء وحده، بل في الإحساس بالحياء:
> أخبؤ وجهي لكي لا يرى
نكوصي والمجد يهتف بي
فالخجل هنا ليس شعورًا سلبيًا، بل وعي أخلاقي حاد، يُحوِّل الوقوف على العتبة من طلب للشفاعة إلى محاسبة للذات، ويُنقذ النص من السقوط في المباشرة أو الخطاب الوعظي.
خاتمة
تقدّم قصيدة «على عتبات بباب النبي» نموذجًا لقصيدة المناجاة المعاصرة التي تُعيد للمديح النبوي صفاءه الأول، وتكتب من داخل القيم لا من خارجها، حيث يتصالح الشعر مع الخشوع، واللغة مع مسؤوليتها، والذات مع اعترافها.
إنها قصيدة لا ترفع الصوت، بل تخفضه؛ ولا تطلب الدخول، بل تكتفي بالوقوف… وعلى العتبات، كثيرًا ما يُقال أجمل الشعر.
جثا قلمي او جثى مكتبي
ليرسل للأرض شهد الرضاب
بأن الخلاص هنا جرّبي
بأن الخلاص هنا من جحيم
الصحاري ومن فيحها اللاهب
أحط رحالي لعل خيالي
يلاقيه بعض خيال النبي
فألثمه، يا لسعدي إذاً
فأمي الفدا وفداه أبي
سأشكو له ساعة عجمتي
وعيني تحدث ما هاج بي
تركت لنا يا حبيبي الكتاب
وسنتك العطر كالصيب
فما شمّت الارض عطر الورود
ولو شمت الأرض لم تتعب
تركت لنا لغة كالربيع
وينبوعها العذب ذا فاشربي
فتُهنا وبُنَّا ونرجوا الخلاص
لدى غيرها عبث المطلب
فواخلتاه إذا ما شكوت
وواخجلتا في لقاء النبي
أخبؤ وجهي لكي لا يرى
نكوصي والمجد يهتف بي
أصلي عليه، أشم يديه
وأرجوه أرجوه يرأف بي
د/ جمعة بن خادم بن سليم العلوي
يوم اللغة العربية
تمهيد
تنهض قصيدة «على عتبات بباب النبي» على مقامٍ دلاليٍّ بالغ الخصوصية، إذ لا تقترب من السيرة النبوية من زاوية الوصف أو السرد، ولا من باب المديح التقليدي، بل تتخذ من العتبة موقعًا رمزيًا للقول الشعري؛ مقامًا بين الدخول والانتظار، وبين الرجاء والمساءلة، حيث يصبح الكلام فعل خشوع، واللغة وسيلة تطهير لا وسيلة إبانة فحسب.
أولًا: العتبة بوصفها بنية رمزية
يحيل العنوان منذ البدء إلى فضاء انتقاليّ، فالعتبة ليست مكانًا مستقرًا، بل منطقة توتر بين الداخل والخارج. ومن هنا يتماهى الشاعر مع هذه الحالة الحدّية، فيجثو قلمه قبل أن ينطق صوته:
> جثا قلمي أو جثى مكتبي
فالكتابة هنا لا تبدأ بالفعل، بل بالانكسار؛ إذ تتحول أداة القول إلى ذات خاشعة، ويغدو القلم كائنًا يتعبد قبل أن يعبّر. وهذه استعارة تأسيسية تُحدد أفق النص كله، حيث يُنزَع عن الشعر ادعاء السيطرة، ويُعاد إلى مقام التضرّع.
ثانيًا: انزياح الصورة من الحسي إلى الروحي
تستثمر القصيدة حقلًا دلاليًا ثريًا قائمًا على مفارقات حسية ذات امتداد روحي، مثل:
(الشهد، الرضاب، العطر، الربيع) في مقابل
(الجحيم، الصحارى، الفحيح اللاهب).
> بأن الخلاص هنا من جحيم
الصحاري ومن فيحها اللاهب
ولا يقتصر هذا التضاد على المكان الخارجي، بل يتعمّق ليصير توصيفًا لحالة الاغتراب الروحي واللغوي، حيث تتحول الصحراء إلى رمز للجدب المعنوي، بينما يتجسد الخلاص في القرب النبوي بوصفه نبعًا للسكينة والاتزان.
ثالثًا: اللغة ميراثًا نبويًا
من أعمق لحظات النص دلاليًا قول الشاعر:
> تركت لنا لغة كالربيع
وينبوعها العذب ذا فاشربي
فاللغة هنا ليست أداة خطاب، بل وديعة حضارية ذات أصل نبوي، تشرب منها الأمة صفاءها وهويتها. ويبلغ النص جرأته الأخلاقية حين يقرّ بالتيه والبين:
> فتُهنا وبُنَّا ونرجو الخلاص
لدى غيرها عبث المطلب
وهي مفارقة بلاغية حادّة تُدين الاغتراب عن اللغة بوصفه اغترابًا عن المعنى والرسالة، وتُحمِّل القصيدة بعدًا نقديًا حضاريًا يتجاوز الذات الفردية.
رابعًا: العجمة بوصفها جرحًا وجوديًا
لا تأتي العجمة في النص بوصفها ضعفًا لغويًا فحسب، بل بوصفها علامة انكسار حضاري:
> سأشكو له ساعة عجمتي
وعيني تحدث ما هاج بي
وهنا تتقدّم العين على اللسان، في إشارة بلاغية إلى عجز اللغة المعاصرة عن حمل الألم، رغم أن القصيدة نفسها مكتوبة بلغة فصيحة متينة، وهو تناقض مقصود يعمّق أثر الشكوى بدل أن يضعفها.
خامسًا: الخجل بدل المباهاة
تبلغ القصيدة ذروتها الوجدانية لا في الرجاء وحده، بل في الإحساس بالحياء:
> أخبؤ وجهي لكي لا يرى
نكوصي والمجد يهتف بي
فالخجل هنا ليس شعورًا سلبيًا، بل وعي أخلاقي حاد، يُحوِّل الوقوف على العتبة من طلب للشفاعة إلى محاسبة للذات، ويُنقذ النص من السقوط في المباشرة أو الخطاب الوعظي.
خاتمة
تقدّم قصيدة «على عتبات بباب النبي» نموذجًا لقصيدة المناجاة المعاصرة التي تُعيد للمديح النبوي صفاءه الأول، وتكتب من داخل القيم لا من خارجها، حيث يتصالح الشعر مع الخشوع، واللغة مع مسؤوليتها، والذات مع اعترافها.
إنها قصيدة لا ترفع الصوت، بل تخفضه؛ ولا تطلب الدخول، بل تكتفي بالوقوف… وعلى العتبات، كثيرًا ما يُقال أجمل الشعر.
التعديل الأخير: